على الشريط الحجري الرابض بين نهر النيل وجبل "ميمي" في أقصى شمال السودان؛ تقع قرية كربين البائسة التي لم يصلها الكهرباء. "قرناص" صديق العقارب والأفعى السامة، التي تنتشر في المنطقة، ذو السبعة أعوام يحمل في جيبه دائماً بعض القصاصات الورقية من مجلات الأطفال القديمة. يهوى الجلوس قريباً من البحر دون أن يخشى أساطير جنيّات البحر المتداولة في المنطقة، ودون أن يستعيد قصص الذين خطفتهم تماسيح النيل الشرسة. يبحث بأصابعه في المنطقة المجاورة عن بعض الأحجار التي يتسلى بقذفها على الماء لتحدث دوائر يظل يتابعها بإعجابٍ بالغ.
ولسببٍ ما يتذكر "قرناص" أمنيات أخيه الأكبر في النزوح إلى الخرطوم والعمل هناك. يعرف أن أخاه يحلم بالثراء والزواج من خرطومية فارعة الطول كما يسمع عنهن دائماً من أحاديث القلّة الذين يعودون في مواسم الحصاد. وترن في أذنه الجملة التي ترددها أمه دائماً "موت يا حمار!"
"شهاية" إحدى الفتيات اللواتي أوقفتهن ظروف المعيشة القاسية - كغيرها من الفتيات - عن مواصلة الدراسة، قرأ في بعض حاجياتها الخاصة عن أمنياتها بالزواج من مغترب يأخذها خارج القطر. ولم تكن تخفي ذلك عن الجميع، فتبسم وهو يتذكر مقولة والدته لها "موت يا حمار!"
والده الذي بدأت أسنانه العلوية بالتسوس ثم بالتساقط وهو يحلم بأن يهدم الجدار الخلفي لمنزله ليبني غرفة يجعلها مستودعاً ، وضحكات أمه التي كانت تحبطه دائماً وتذكره بارتفاع ثمن الاسمنت والطوب الأحمر وجملتها الختامية التي لم تخش أن تجاهره بها "موت يا حمار!"
ابتسم قرناص، وهو يفكر في هذا الحمار الذي سيكون موته خلاصاً وحلاً للعديد من مشاكل أسرته بل والقرية كلها. كان يعلم بطريقةٍ ما أن الله قد ربط حسن الطالع بعجز الحمار دون أن يسأل نفسه عن تاريخ هذه الجملة التي ترددها أمه منذ أن تعلّم القراءة والكتابة في مدرسة كربين الابتدائية. وربما تعالت ضحكاته عندما سمع نهيق حمار غير بعيد واستلقى على ظهره وهو يقول "آهٍ لو تدري أيها الحمار، كم أن موتك حياة لآخرين!"
وعلى صوت خشخة أوراقٍ يابسة؛ التفت قرناص عن يمينه ليجد حمار الشيخ "صالحين" يهز رأسه طارداً عن وجهه ذباب البحر والنّمتي* نافخاً من فمه هواءً كان يحرّك به أوراق الأشجار المتساقطة باحثاً عن شيءٍ ما. أخذ قرناص ينظر إليه وهو يتأمل ذيله المسوّد من نهايته، وخمّن أن تلك البقعة السوداء هي حسن طالع القرية المربوط به.
تقدّم الحمار إلى النهر، وأصيب بالهلع عندما التقط رأسه تمساح ماكر كان على ما يبدو في انتظاره قرب النهار. سحب التمساح الحمار إلى داخل النهر، ورآه قرناص وهو يرفس برجليه الخلفيتين الماء محدثاً دوائر غير منتظمة، وفجأة اختفى الحمار في النهر.
ركض قرناص إلى القرية وهو يصيح بفرح: "لقد مات الحمار .. لقد مات الحمار" ظنّ أنه يحمل إلى القرية أجمل خبر كانوا في انتظاره منذ سنوات طويلة. ولكنه فوجئ بحزن الشيخ "صالحين" على حماره الذي كان يعوّل عليه كثيراً في رزقه ورزق أبنائه. واستدعى حزنه حزن أهل القرية جميعاً ، فجاءت الوفود لتعزيّه في حماره. "لن أستطيع الحصول على حمارٍ آخر فلا طاقة لي بثمنه" قال الشيخ صالحين وهو يرد على المعزيّن، بينما قفز أحدهم "لا عليك .. سوف تتمكن من شراء حمار آخر، عندما ننتهي من حصاد البلح في الموسم القادم" ومرة أخرى سمع قرناص أمه تهمهم "موت يا حمار!"
فتساءل في سرّه "عن أي حمار تتحدث؟!"